الاثنين، 16 سبتمبر 2013

فيض أمل بعودة حواس

في ضوء النّهار وعلى مرمى من الجميع، مشى في شوارع المدينة بملابسه الملوّنة والمزركشة، لا يأبه لما يصفه به النّاس، هم لا يدركون معنى التّمايز، سجناء لأفكار التعنّت والعنف، وما سخريتهم إلا انعكاسًا لعجزهم وقياسًا لعمق البؤر المتجذّرة في نفوسهم النّاقصة التوّاقة لنظرة اهتمام .
الطّرقات متوازية ومعبّدة بحرارة الشّمس التّي ألهبت حجارة الرّصيف، أقدامه متمسمرة بحذاء الحفر الصّاخبة بعجلات الوقت المرهون بحركات الكون ودقّات القلوب.
بضع دقائق جعلته يتقدّم مسافات، إشتم رائحة الخبز المقلي عند مدخل الحيّ، فاقترب صوب باب بيته، ليتحسّس قفل الباب، لا وجود للجنزير الحديدي … هلْ عادت روزا بأنفاس الفرح الملون؟!!
كانت روزا وميض عينيّ جاك الذّي غادره مع آخر رسالة صوّرت فيها عجزها عن ايجاد عمل ليقتاتا منه.
وحدها احتلّت عرش حواسه الأربع وأعانته على استبدال البصر بنور اللّمس .
هي من ساكنها سنوات ثلاث واستجمع معها أحلام حياته، كانت ترافقه كلّ صباح إلى دكّانه الملاصق لإحدى البنايات القديمة في الحيّ الخلفيّ، تعتني بتفاصيل حياته من ملبسه الى مأكله فمضجعه .
كانت تمارس معه شتّى فنون الحب، فلا يبصر سوى لذة الدّفء وحرارة الفرح المتوّج بلمساتها وصوتها الهادئ.
على الرّغم من أنّ أذنيه تمزّقت من ثرثرة أهالي الحي والجيران بالسرّ والعلن، ورمي الأحاديث الباردة عند مروره من أنّ سبب ترك روزا له هروبها مع عشيق جديد أو زواجها من رجل ميسور، ومنهم من وصل به خياله الى أن يدّعي أنّه رآها بهندام جديد، تركب سيارة “آخر موديل” يقودها سائق من تحت بناية في شارع فردان ومنهم من قال أنها ماتت في حادثة بعد أنْ تمّ اغتصابها من قبل مجموعة سكارى في الحرش وألقوا بها في الوادي، لم يكرهها يومًا ولم تتغير ملامحها الحنون، في ذاكرته المتخيلة. تمثالها لا يزال صحيحًا، ولم يمسّه صدأ الأشهر التسعة التّي غابت فيها عنه.
أدخل مفتاحه الوحيد في قفل الباب، فما أن فتحه حتّى دخل في دهليز صغير، خانه صوته لم يدرك أنْ جدران منزله عمّها الصمم، لم يجرؤ أن ينده اسمها.
إقترب من الصّالة فاذا بعطرها يفوح، صرخ بصوت قلق:
- روزا….!!!!
غمرة تلاصق بها الجسدان، وشهقات أطلق سراحها من سجن صدره، أخذ يتلمس تفاصيل وجهها قائلاً:
- أنت روزا أم رؤيا … لن تخدعني حواسي بعد اليوم فعطر طيفك يحتل ذاكرة حواسي !!!
عيناها لا تقويان على وقف مد الدموع فجذرعواطفها سُرّح من ليل الفراق برجفة مرتعدة وصوت خافت:
- إشتقتك …
إحتضن وجهها بكفي يديه، وأخذ يتحسس تفاصيله، مسح بإبهاميه دموعها واقترب يشتم انفاسها بعمق بمحاولة لاجتيافها واستعادة الروح وصلت أصابعه إلى شفتيها: – - هنا تقف حدود عطشي !!!
قرب شفتيه من شفتيها فانقضت روزا تقبّله بشغف مسافرٍ في صحراءَ هجرها الرّحل، وأتعبه سراب الماء حتى ارتمى في نبع عذب.
أخذ ينهل من رحيق ثغرها ما خاله يشفي روحه ويشبع جوارحه، دون تخمة أخذ يمرر شفتيه على مسام وجهها ويشهق انفاسها:
- أدماني الشوق زنبقتي.
- ذبلت بتلاتي وأظلمت شمسي.
- حبيبتي، أرويكي بنفحات العشق المترامي بين أهدابي، أنت من جافاني وهجر بي ورحل دون إنذار، كم تمنيت لو فارقني سمعي بعد بصري وبقيتي.
عانقها بقوة فشدته إلى الكنبة ليجلسا متلاصقين دون أن تفلت من عناقه.
- كان سبيلي الوحيد لإخراجك من مأزق الفقر والديون التي تراكمت بسببي، لم أشأ أن أكون عبئاً مضافاً فآثرت الغياب لفترة ريثما أجني بعض ما يكفينا لسنة مقبلة.
أول لقاء بين روزا وجاك كان عند تقاطع الطريق حين شدته من أمام سيارة مسرعة، كان يحاول عندها جاك أن ينهي وحدته باحتضان الموت سريراً أبدياً بعدما ضاقت به كل طرقات مدينته التي حفظها من روائحها وملمس جدرانها الرّطب ففتحت له يداها نافذة أمل جديد .
لم يكترث جاك لما فاح من ماض روزا المشبع بأجساد الرّجال النتنة، ولا لما كانت تقصّه عليه من تجارب فاشلة وحوادث مريرة كانت قد تعرضّت لها، لم يجد فيها سوى امرأة حنون شاركته الفرح واعتنت به كطفل وحيد مدلل، اهتمامها به شفع لها عنده واختارها له امرأة يسكنها.
إرتأيا ان يعيشا سوياً دون عقد زواج، لاعتبارهما ان ما يربط زوجين هو ما صُدّق في القلب وليس على الورق، وفي كل لقاء حميمي بينهما كان الله شاهد عليهما.
عاشا متآلفين متحابين إلى أن بدأت الأمور تسير نحو الأسوء، فإيراد الدّكان لم يعد يغطّي إيجاره ولا يكفي حاجاتهما الغذائية وعلاج جاك الدائم من مرض السكر وإيجار المنزل، بعد أن تم افتتاح مخازن السّوق الغذائي في الشارع المجاور، فآثر وقتها سكان الحي والأحياء الأخرى، الشراء من السوبرماركت حيث الأصناف المختلفة والعروضات المميّزة، وبلغ فيهما سوء الحال الإقتصادية حداً أخذت روزا معه تبحث عن عمل حتى ولو خادمة ولكن لا جدوى من ذلك فالخادمات الأجنبيات لم يبقين على أعمال التنظيف من مجال لكسب العيش، عندها آثرت الإبتعاد بعد أن كان جاك قد وصل به الحد أن يقترض من المال المخصّص للعلاج على حساب نفقات المنزل ونفقاتها.
تركت روزا المنزل في غيابه، رغماً عنها وعادت إلى عملها السابق، ولكن هذه المرة اختلف الوضع ففي كل ليلة كان يرتسم على فراشها ألف وجه ووجه … وجوه فارغة من ملامحه، عيون شاخصة في جسدها الممتلئ الناصع البياض تصبّ جام جشعها في الإقتضاض عليه ونهشه، هي نظرات قاسية لا حنان فيها ….الأحلام نفسها تراودها كل مرّة بارتعاش جسده للمرة الأخيرة…
هي طرقات الموت البطيء تسبق خطواتها كل مساء، تقتنص شفتيها وتخطط لاعتراء جسدها وتشويهه ، هي كلمات موحشة تنهش قلبها وتغتصب آخر أمل لها بوطن من حياة يحتضنها…
عادت إلى أحضان حبيبها دونما اكتراث لما تركته خلفها ، واثقة هي من استقبال قدّيسها المشبع بالإحساس، ومن غفرانه لها ولخطيئتها، آثرت العودة إلى الفقر والتقشف عن الإستمتاع بلذة المال المطعم بالذل والقذارة ، قررت العودة إلى جدران نبتت في شقوقها أزهار دافئة يعبق بها منزل صغير آمن كوطن مستقل عن الشهوات البغيضة المدفوعة سلفاً من جعبة الكرامة والإنكسار.
اقتحمت الحي وبيديها أكياس الخضار وبعض الفاكهة، رافعة رأسها غير مكترثة لا لنظرات النسوة اللاتي يخفين في صدورهن أسراراً لا تعدو عن كونها معادلة لماضيها فمنهن من تزوجت بالمال وتلك تنتظر خروج زوجها لتتفرد بأخيه وأخريات يستغللن التجمعات النسائية ليبرزن مفاتنهن أمام بعض ولا يخفى على أحد إلى أين تودي تلك الإجتماعات من علاقات شاذة…
لم يكن الوقت القليل الذي غابت فيه كفيلاً ليصدأ به قفل الباب فاطمأن قلبها، دخلت بيتها مختالةً بعودتها، قامت بتنظيفه وبإعداد مأدبة احتفال متواضعة تتضمن أطباق جاك المفضلة وكأسين براقيّن من نبيذ أحمر، ولم تنسَ قطع الخبز المقليّ التي تروي قصص قُبل مشتعلة مع كل قطعة كانا يتشاطرنها في آن معاً.

                                                                                                    نيسان 2011
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق